مرصد مينا
بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، تحولت دمشق إلى محور اهتمام إقليمي ودولي. حيث تدفقت الوفود الدبلوماسية من مختلف أنحاء العالم لبحث توجهات الإدارة الجديدة ورؤيتها لمستقبل سوريا.
هذا الاهتمام يعكس الأهمية الجيوسياسية لسوريا والتأثير المتبادل بينها وبين محيطها الإقليمي والدولي.
في هذا السياق، تبرز الأسئلة حول توجهات القيادة الجديدة في سوريا برئاسة أحمد الشرع، في وقت يواجه فيه البلد تحديات ضخمة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ترقب داخلي حول معالم الدولة الجديدة
في كلمته التي وجهها للشعب السوري، عقب تنصيبه رئيساً انتقالياً، الأسبوع الماضي، شددالشرع على ضرورة ضمان السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، مع التأكيد على بناء مؤسسات الدولة عبر تشكيل حكومة شاملة ومجلس تشريعي مصغر، بالإضافة إلى إطلاق مؤتمر حوار وطني.
هذه الخطوات تعكس أهمية بناء شرعية داخلية قوية تستند إلى رضا المواطنين وتقبلهم للسلطة الجديدة، بحيث لا يعتمد الاستقرار على الاعتراف الدولي فقط، بل على وجود قاعدة شعبية تدعم المرحلة الانتقالية.
الشرعية الشعبية، كما يراها الشرع، لا يمكن أن تتحقق فقط من خلال القوة العسكرية، بل تتطلب تبني سياسات قائمة على العدالة والشفافية والمشاركة السياسية.
هذا بالإضافة إلى تقديم خدمات أساسية تساهم في تحسين حياة المواطنين وتُظهر قدرة الدولة على إعادة بناء مؤسساتها.
تحديات سياسية واجتماعية للمرحلة الانتقالية
تواجه سوريا تحديات كبيرة، من بينها إعادة الإعمار، وتحقيق الأمن وإعادة اللاجئين، وتحفيز الانتعاش الاقتصادي في ظل انهيار البنية التحتية والاقتصاد.
وتعتبر مرحلة ما بعد الحرب فرصة لبناء سوريا جديدة، إلا أن ذلك لن يتم دون احتواء القوى المجتمعية والسياسية المحلية.
ويتطلب هذا الأمر توافقاً وطنياً يضمن أن السوريين يشعرون بأنهم جزء من عملية بناء الدولة، وليس مجرد متلقين لقرارات مفروضة عليهم.
ويقول الشرع إن الإصرار على العدالة والشفافية وتبني سياسات تضمن المشاركة السياسية الوطنية سيُسهم بشكل كبير في بناء الثقة بين الحكومة والشعب. كما أن فشل في ضمان هذه الشرعية الشعبية قد يؤدي إلى انعدام الثقة وعودة النزعات الانفصالية أو المعارضة المسلحة.
لذا، من المهم أن تستمع الإدارة إلى مطالب الشعب وتعمل على تحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني.
سياسة خارجية واقعية وتوازن إستراتيجي
تعتمد الإدارة الجديدة في سوريا سياسة خارجية تقوم على الواقعية والمرونة. الهدف هو إعادة دمج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، وبناء علاقات متوازنة بعيداً عن الاستقطابات الحادة.
وتظهر هذه السياسة في سعي القيادة الجديدة لتعزيز العلاقات مع الدول العربية، خصوصاً دول الخليج، والتي تُعتبر شريكاً إستراتيجياً يمكن أن يساهم في دعم سوريا سياسياً واقتصادياً.
وتُعزز هذا الطرح زيارات رسمية آخرها زيارة الشرع إلى الرياض للقاء ولي العهد محمد بن سلمان، وسبقها زيارة وفد دبلوماسي عال مؤلف من وزيري الخارجية والدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات لكلٍ من السعودية، قطر الإمارات والأردن.
كما تهتم الإدارة الجديدة بتوطيد العلاقات مع تركيا نظراً لتداخل المصالح بين البلدين في مجالات أمنية وسياسية، لا سيما في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق الفرات.
هذه العلاقات تعتبر مهمة في عملية إعادة الإعمار وتقديم الدعم اللوجستي والخدمات الأساسية.
العلاقات مع القوى الكبرى: روسيا والغرب
على الصعيد الدولي، تسعى القيادة السورية إلى إقامة علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، مع التركيز على التعاون مع الغرب لاستقطاب الدعم الدولي ورفع العقوبات.
رغم ذلك، لا يبدو أن دمشق ستتخلى عن علاقاتها الإستراتيجية مع موسكو، التي تؤدي دوراً مهماً في دعم الجيش السوري وتوفير الطاقة.
وبحسب ما صرح به الشرع، فإن العلاقات مع روسيا ستظل محكومة بالمصالح الإستراتيجية، مع المطالبة بتعويضات عن تدخلها السلبي في سوريا وتسليم بشار الأسد للعدالة.
من جهة ثانية، تعتبر سوريا الوجود العسكري الروسي في البلاد ورقة تفاوضية في مساعيها لرفع العقوبات والانفتاح على الغرب.
وبالرغم من الضغوط الدولية لسحب القوات الروسية من سوريا، يبقى هذا الخيار بعيد المنال ما لم تتحقق بعض المتطلبات السياسية.
وتواجه الإدارة الجديدة بقيادة الشرع مرحلة انتقالية معقدة، تتطلب توافقاً داخلياً وسياسات خارجية مرنة.
وعلى الرغم من التحديات الضخمة التي تواجهها سوريا على كافة الأصعدة، فإن القدرة على تحقيق الاستقرار الداخلي وبناء علاقات استراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية ستكون حاسمة في تحديد مصير سوريا الجديدة في المستقبل القريب.
0 تعليق