نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
«الكتابة بحبر أسود».. أم بحبر القلب؟ - عرب بريس, اليوم الجمعة 24 يناير 2025 03:40 صباحاً
كتب بحبر قلبٍ عاشق لمعنى الكتابة والقراءة، ولمعنى الحرف والفكرة والوعي المنتج، كتابة محرّضة على متعة التفكير في سياق التلقي المعرفي المؤثّر.
ممتع بحق، وودت لو تطول متعة القراءة وأنا أقترب من صفحته الأخيرة.
إنه من نوع الكتابات المغرمة حقيقةً بفن العيش الذهني والروحي ومعنى أن تستغرق في صمت الكتابة والقراءة ولا تمل من ملامسة واستنشاق رائحة الكتب، وملامسة القلم أو حديثاً الضرب على كيبورد اللاب توب!
ما معنى أن تقرأ؟، ما معنى أن تكتب، وتنتج وعياً جديداً؟
وهل هناك أجمل من هذا العيش في لُجة الأفكار وصراعاتها وجدلياتها؟!
ومن ثم هو الكاتب العارف بديناميات الكاتب وسيكولوجيته ومفاعيل كتاباته وإبداعاته.. وتأثيراته ومؤثراته.
وحسن مدن أديب ومبدع استثنائي بطريقته ومفكر باحث عن المعرفة بطريقة كتابته الأدبية المائزة.
أسلوبه الرشيق، ولغته البسيطة الواضحة الممتنعة، وتناولاته الخاصة لمواضيعه المشوّقة تدل على الملكة الإبداعية الكامنة لديه. ومن ثمّ هو ذو طراز آخر في الاقتراب من روح الفعل الكتابي الإبداعي.. والإبداع الأدبي في ظني ليس محصوراً فقط لمن كتب رواية أو شعراً أو نصاً تأملياً، بل من عرف سرّ الكتابة ووعى جوهرها المطلق وعظمتها في ترميم الروح الإنساني.
وأستطاع أن يفكك بنيتها التكوينية ويعي مراميها، ودلالاتها وإشاراتها كالناقد، فالناقد المبدع ينتج القول على القول، ويكتب نصاً موازياً.. ينتج معرفةً بالنص المنقود لا يقلّ قيمة ولا وعياً.
يكتب حسن مدن مقالاته المتقنة بروح هذا المبدع الناقد، وهو القارئ المحب المتابع لكل الكتابات والأعمال الأدبية والفكرية والإبداعية العربية والعالمية فدائرة اهتماماته واسعة وحين كتب (ترميم الذاكرة) سيرته الحياتية الشائقة، كتبها بروح القاص الفنان الذي يلتقط التفاصيل الصغيرة برهافة عالية، ولم يكتبها بروح السياسي والمهموم بقضايا آنية. إنه الكاتب الذي يفهم فعل الإبداع في قارئه.. آليته ومعناه ودهشته وهو على مسافة قصيرة من التأمل البصير بين التماثل التخييلي واللا تماثل الواقعي، فهو يقع في منطقة وسطى بين الفعل الغائب والممكن، والحضور المأمول في قلب الفعل الكتابي.. وفي ظني لو رجع إلى دفاتره القديمة كما فعل أمبرتو ايكو لكتب لنا عملاً إبداعياً عميقاً وهو المهموم بالعمل الفكري والسياسي والصحفي اليومي وصاحب التجارب الحياتية الواسعة.
وكتاب حسن مدن هنا (الكتابة بحبر أسود) رباعية متكاملة في العملية الكتابية وعناصرها، بدءاً من فاعلها: الكاتب، إلى منتوجه: الكتب، ومستقبِله: القارئ.
هذه الرباعية: «الكتابة، الكاتب، الكتب، والقراءة»، نسجها حسن مدن بحذق فأبدع لنا سجادة معرفية عريضة وبالغة الجمال في تلويناتها وتموّجاتها الإبداعية.
وأنا هنا سأتأمل هذه السجادة المنسوجة بالحروف متخيلاً أياها معلقة كلوحة فنية على حائط لأقف مطولاً متأملاً أبرز خيوط النسيج وأهمها في عمق ألوانها والتماعاتها، وانبثاقات أفكارها بأطيافها الأربعة؛ بمعنى لن يكون بمقدوري الوقوف في قراءتي هذه عند كل مادة من مواد هذه الرباعية الثقافية على أهميتها وتميزها، لكني سأقف، بلا شك، عند كل ما يثير التأمل المنتج ويحفّز على التفاعل الجدلي الخلاّق.
في الجزء الأول من الرباعية: (الكتابة)، يرسم الكاتب لوحة الكتابة في أكثر ملامحها حيوية، متعددة الوجوه، متعددة الينابيع، عميقة الظلال مثل كائن حي من لحم ودم وروح «بصيرة، حنونة وغليظة، وبلسم للنفوس المتقرحة، واضحة وغامضة ومترهلة..»، كائن من حروف يتأثّر بالمكان والزمان والتاريخ والذكرى ويؤثر فيها في عناق جدلي لا يخلو عن مفارقاته وتناقضاته وغرائبه عند تخوم التخييل والتحرر من مطلق الموضوع الضاغط إلى مطلق الفكرة والتخييل.
فالكتابة حين تتخطى جملتها الأولى/ ولادتها، وتتجاوز صعوبات ومأزق الحيرة التي تجتاح الكاتب فإنها تعلن نفسها وتنطلق في سياقاتها حتى منتهاها، ويبدو أن معاناة طرح الجملة الأولى كما يورد حسن مدن في كتابه، عاشها كل الكتاب والمبدعين الحقيقين أمثال غابرييل ماركيز وهمنغواي، حيث ارتبطت كتابتها إما باستدعاء ذكرى أو حكاية معينة أو بالحالة النفسية للكاتب حين يجلس على طاولة الكتابة وذهنه فارغ تماماً من أي فكرة جاهزة كما كان يواجه نجيب محفوظ بفعل العادة اليومية عند بدء عملٍ جديد.
أو كما كان يعانيه الشاعر محمود درويش في وضع السطر الأول من قصيدة جديدة كأنه لم يكتب قصيدة من قبل.!
ومن هنا يقودنا الكاتب إلى ينابيع الكتابة في فصله الممتع من هذا الكتاب.. فأولى هذه الينابيع لا شك تأتي من بصيرة القلب، من تلك «الغرف السرية للقلب»، كما تحدثت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي عند بدء كتابة الجملة الأولى من روايتها الشهيرة (بيت الأرواح) وهي تعاني من غشية المشاعر القلبية الحزينة.
ولكن ينابيع الكتابة ليست دائماً ملموسة واضحة وناجزة، وإذا اعتبرنا أن مصدرها الأول الذهن والشعور والتخيّل فهناك أيضاً ما يسمى الإلهام، حتى هذه الينابيع ليست كافيةً لخلق الكتابة ما لم تكن ممثلةً في سياق المعايشة، أو مغترفة من ينبوع الحياة وتفرعاته. أن نسيج الكتابة في واقع الأمر يتخلّق من كل هذا وذاك ولا تنفصل بالضرورة عن معين الخبرة والتجربة الحية التي تكمن للكاتب عند كل منعطفات العملية الكتابية.
نذهب إلى الجزء الثاني: (الكاتب)، وأعده من أهم الأجزاء في هذه الرباعية، فهو المحرك الرئيس للعملية الكتابية برمّتها، فهو الذي يكتب ويراكم الكتابة في كتبٍ تقودنا تالياً إلى معنى ومفهوم القراءة، القراءة في صورها الخطيرة المتعددة: الممتعة والمنتجة، المنورة والمظلمة، المعلِّمة والمسطِّحة، البانية والناسفة وهكذا.
فكيف نظر كاتبنا إلى الكاتب؟
الكاتب إمّا منفتحاً مجتمعياً (عضوياً) أو منعزلاً حالماً بيتوتياً وكلاهما ينتجان في الأغلب أدباً مرموقاً. فالكاتب حين يكون منفتحاً لا يكتب الاّ في الأماكن المفتوحة كمحمد شكري أو سمير الفيل أو يحيى الطاهر عبدالله أو أمل دنقل، وغالباً ما يغرف مادته الإبداعية من الحياة والمعاش ويعيد تشكيلها في المخيال، أو منعزلاً بيتوتياً فمادته الأدبية يغترفها بالأساس من تفكيره الذهني وتأملاته الفلسفية في وجود خيط رفيع لا يرى ولا ينقطع، يربطه بالواقع وبالخارج، كالشاعر محمود درويش الذي ربما لا يغادر منزله أياماً طويلة، محتمياً بألفة المكان منغمساً في ألفة الخلق الشعري متعايشاً مع كائناته اللغوية..!
وفي مكانٍ آخر يحدثنا حسن مدن عن الكاتب المحترف الذي لا يكتب لنفسه، بل الذي يكتب بالضرورة وفي ذهنه القارئ حتى لو كان هذا القارئ واحداً فقط؟
والكاتب الملتزم الذي يتبنى القضايا العامة والأفكار الكبيرة، غالباً ما يكون حريصاً على تشكيل الرأي العام وخلقه، لكن يحدث أن ينزلق في نظري بعض هذا النوع من الكتّاب إلى مواقف أيدولوجية خاصةً حين يكون الحقل السياسي منبعاً لكتاباته.
ويلفتنا إلى ذلك الكاتب (الكتبجي)، الذي يُسْهِل في الكتابة ويكتب بغزارة عدداً من الكتب ما لا قدرة لأحدٍ على مماراته كالكاتب الفيلسوف عبدالرحمن بدوي أو الكاتب الصحفي أنيس منصور أو (الروائي) الشاب إبراهيم المسلّم، فالأول كتب 70 كتاباً مصنفاً وحين تساءل المفكر المصري محمود أمين العالم: متى ينتج هذا كله وكيف؟ أرجعه إلى صبره ودأبه ومثابرته، وليس كل من كتب الكتب الكثيرة قدم الإضافات الخلاقة فلسفياً وفكرياً وإبداعياً، كما قدمها البدوي في إضافة عالية المستوى، أما كتابات أنيس منصور على كثرتها فكانت إضافتها الأدبية والفكرية متوسطة المستوى على تميز وأهمية بعضها ومنها كتاب (حول العالم في 200 يوم)، لكن السؤال الذي أطرحه هنا:
كيف ومتى كتب إبراهيم المسلم رواياته الثلاثين حتى الآن ولم يبلغ من العمر بعد ما ينيف عن الثلاثين؟
وما الإضافة الحقيقية التي قدمها للرواية لغةً وسرداً وتقنيةً؟ اللهمّ غير إضافاته للكم العددي الهائل من المراهقين الذين يلهثون وراء توقيع رواياته في أكثر من مكان من الخارطة العربية، والذي لم يقدر عليه نجيب محفوظ نفسه وهو المنتج لما يقارب الخمسين عملاً إبداعياً حقيقياً.
وربما هذا كفاه.
في الجزء الثالث الذي خصصه حسن مدن عن الكتب، هذه الكائنات الصديقة الحية الصامتة التي تطل علينا بشموخها وعظمتها من أرفف مكتباتنا تختزن التطور البشري كله؛ تاريخه وثقافاته وعلومه وفنونه وآدابه في صمتٍ لا يغادر صمته الاّ حين تنفرج بين أيدينا دفتا الكتاب.
ويورد الكاتب بعض درر المقولات عن الكتاب نذكر منها ما تحدث بها بعض الروائيين كبورخيس وكافكا تدعوك لأن تتأملها وتتماهى معها.
يقول مارسيل بروست: «إن الكتاب أفضل من الصديق وأنفع من حديث الحكماء»، في حين يقول الكاتب الأرجنتينى بورخيس: «إن خزانة الكتب تشبه غرفة سحرية تقيم بها أفضل الأرواح البشرية وأحسن عقولها وأقواها».
في الجزء الرايع من الكتاب: (القراءة) يلتفت الكاتب إلى عمق ظاهرة (أمية المثقف)، وهي أكثر أهمية وخطورة من تلك الأمية الناتجة عن افتقاد القدرة على القراءة أو الكتابة، ويعني بها توقف المثقف أو الكاتب عن قراءة الجديد ومتابعة ما يكتبه مجايلوه والاكتفاء برصيد ما قرأ وبرصيد ما تكرّس لديه من مكانة أدبية أو فكرية، فتراه يدور في حلقة المفاهيم والأفكار القديمة ذاتها التي صدئت وفقدت قوّتها السابقة دون الوعي، إن المعرفة عملية مستمرة متجددة لا تعرف التوقف عند زمن، وأنها تتغذى بملاحقة الجديد والمفيد. وأميّة كهذه يعدها حسن «مأزقاً حقيقيّاً في الثقافة العربية».. وهي لعمري كذلك فهي أيضاً تمتدّ وتزداد رسوخاً حين يقتصر المثقف أو الكاتب على بعدٍ معرفي أحادي دون خلق الوشائج الضرورية بتعددية المعارف، فتنقطع صلاته المعرفية بالسياسي والتاريخي والاقتصادي والفني في عزوفٍ غريب عن روافد ثرية قد يفيد منها في عمله الكتابي أو الإبداعي.
أيضا في هذا الجزء الأخير من كتابه الممتع، يحدثنا الكاتب في كلماتٍ تحتشد بعذوبتها عن تعلّقه بكتابات القاص والروائي الروسي أنطون تشيخوف، وكتب قراءة نقدية عذبة لا ينقصها عمق الرؤية ولا حرارة التأويل:
«تعلقت بأدب تشيخوف ومع الوقت أدركت أننا نعود إليه عندما نضجر، وعندما نفرح، وعندما نحب.. تشيخوف صديق الكتابة والقراءة ورفيق الروح»، وهو كذلك يا صديقي.. كم تشبهني في هذا الحب المشترك وفي هذا الولع بقصص تشيخوف القصيرة ومسرحياته ونوفيلاته في قوة سخريتها «وبساطتها الخادعة»، كما يقول حسن، وعذوبتها الجارحة التي ما زالت تشكل لي معيناً ملهماً ألوذُ إليه كلما عطشت روحي للبوح القصصي وكلما أردت أن أستعيد قوانين القص وأصوله وجمالياته التي اختلّت في أيامنا المعاصرة وانتهكت، وصارت الكتابة القصصية منزوعة من تربتها ومن روح كائناتها وحقائقها التي تمشي على الأرض، تلك التي تركض في ضباب الذات العليلة لا تفرحنا ولا تشبهنا، بل تزيدنا ضجراً وسأماً.
0 تعليق