صدر له خمسة مؤلفات وكتب أخرى تحت الطبع ومئات المقالات الأدبيّة..
العنوان (مطرٌ كسولٌ على الباب) ورد في القصيدة السادسة من الديوان.
للمطر رمزان: الخير والرّزق أو الفأل السيّئ كما ورد في أنشودة المطر للشّاعر بدر شاكر السيّاب. الكسل للمطر جزئيّ لأنه ينهمر ويتوقّف. أما الباب فدلالاته واسعة، للحياة أبواب وكذلك للسّماء وللبيوت.. يكاد يكون العنوان قصيدة مكتفية بذاتها لرمزيّته وأبعاده التي تحمل تفسيرات متعدّدة.
تضمن الديوان مئة وخمساً وأربعين قصيدة، لفتت عبدالمحسن الحداثة فصاغ نصوصاً بعيدة عن شِباك التّقليد الوزني، تنوّعت الكتابة بين قصيدة التّفعيلة وقصيدة النّثر.. كثُرت فيه الدّلالات والأسلوب السيميائي..
نبدأ معه منذ الطّفولة يقول: مُذْ كنتُ طفلاً مشرقاً كعيد/ أحشو جيوبي هادئاً سعيد/ بزرقة البحر وخفّة النّوارسْ/ وقبل أغشى عتمة المدارسْ/ قرأتُ نور الله في الطّبيعة/ وذبتُ في آفاقه البديعة/ وطرتُ في البعيد/..
وفي قصيدة (تحديق) يقول: «أنا إن حدّقتُ في الآفاقِ/ إن قلتُ إلهي/ سالَ نورٌ فاتنٌ في القلبِ/ واخضرّتْ شفاهي».. الإيمان هو الفطرة الطّبيعيّة للإنسان، يرافقه الإحساس بالحاجة إلى الله واجب الوجود كقوّة خالقة ومدبّرة نشأ هذا الإيمان مع الشّاعر قبل دخول المدارس، نورٌ وضعه الله في قلبه، وهذا الأمر أعطاه السّعادة؛ لأنّه ناتج عن النّظر، التّأمل، والتّدبر.
ورد (ص٨٤): «من قال: طينٌ/ ذمّني/ إنّي سليلُ النّورْ/ محلّقٌ، وإنّني/ طيرٌ من الطّيورْ» يرى الشّاعر نفسه أعلى شأناً من المادة فهو من سلالة النّور، نتذكّر هنا أبا نوّاس الّذي اعتبر
الخمرة أرفع من المادة: فلو مزجت بها نوراً لمازجها.. لو بقي في مرتبة غير المحسوس لظلّ المعنى أقوى لكنّه قال: «وإنّني طيرٌ من الطّيور» عاد إلى المادة.. هو محبٌ للحياة بتعبير مبتكر: «أيّتها الحياة/ ها أنذا أشدّك نحوي بشغف/ حتى يحمرّ وجه اللّغة». (ص١٣٨) ومضة شعريّة عميقة الأبعاد جمع فيها كل الأسباب الجديرة بحبّ الحياة دون أن يقولها ليترك خيال القارئ يسرح في تخميناتٍ لا تُحصى.. أليس هذا دور الإبداع أن يجعل من القارئ شاعراً؟
عن أبيه يقول: «في ألبومنا العائلي/ أبصرُ أبي/ يدهنُ الصّيفَ بالأغاني/ القلبَ بالنّوارس/ والبحرَ بالنسيان».. ذكريات مضت أضحت صوراً مجازيّة يختال فيها الرّمز بخيلاء أمير.. الأب، القلب، البحر.. رفقة عُمْرٍ.. (جزيرة فرسان) لها نصيب كبير لأنّها موطن القلب والجمال وهما صنوان زرع والده الفرح وأنشأه عليه ورحل.. ورد (ص١٤٤) «كلّ صباح/ أقتطفُ المواويلَ من شجرةِ الشّجن../ أحشو القميص بالنّوارس/ وأداعبُ القلبَ بالزّرقةِ/ كلّ صباح/ أمسك الموجة من أصابعها/ وأغوي طيشها بالحرير/ كلّ صباح».. في هذه البيئة من لا يكتب الشّعر عليه مغادرتها، هو ربيب الموج والنّوارس امتلأ بفتنتهما. قالت له الحبيبة (ص١٨): «كلّما قرأتُ نصّاً/ أخذني شِعرُك إلى البحر/ ثمّةَ نوارسٌ كثيرةٌ تحلّق في نصوصك». في قصائده آفاق واسعة وأجنحة بيضاء، غيم، غصون، وموسيقى.. تحرّك الشّغف حتّى يُلامسَ القارئُ خدّ السّماء.. جمع قصائده بعناية كما يُجمع عقد اللّؤلؤ في جزيرته. ولو خيّروه مكاناً للسكن سيستجيب لنداء الماء/ مرح الشّط وغواية الأعماق/ كي نحتميَ بالعطرِ من غدرِ السّراب/ ومن ذئاب النّاس/ سنسكنُ وردة. (ص٢٢) تتجلّى رهافة المشاعر ونضج ذوقه الجمالي لعله استقاهما من المدى المترامي الّذي لا يمكن أن يُحدّ غطاؤه، ومن انتشار الزّهور الّتي اختار سكنه بعطرها للابتعاد عن شرّ البشر. يصف الحبّ في الجزيرة: (ص٩٥) «الحبّ في الجنوب/ كرعشة التّراب حين يهبطُ المطرْ/ كرقصةِ الشّجرْ/ في حفلةِ الغروب».. وحين وصف الحبيبة قال: (ص٨٥) «لم أجد وصفاً يليقُ بكِ أجمل من هذا/ غزالٌ نافرٌ في براري القلب».. ويتساءل: «أنتِ/ من أنتِ ؟/ أنتِ ربيعٌ كاملٌ في كتابِ الفؤاد».. حقلٌ معجميٌ حافلٌ بمفردات الحبّ ونبضات القلب مما يؤكّد القول: أنْ تكونَ قد أحببتَ حقّاً، هو أن تكون قد حييتَ حقّاً. ولكن أحوال الحب لا تسير بمنوال واحد يقول: «كعادتك/ ستذهبين في صمتٍ/ تاركةً في يدي عطرك النبيل/ وسلالاً سخيّةً من الأرق».. وفي مكان آخر (ص١٤٠): «أفتّشُ معاطف الوقت/ أفتّش جيوب الحياة/ وحينما لا أجدُكِ/ أحسّ عميقاً بفداحةِ اليُتم». ينحاز الشّاعر بتعابيره إلى
إشراقات الرّوح وتجلّياتها ونتساءل ما جدوى الكتابة عنها؟ إنّها توقظ بعض الوعي وتخلّد لحظات وجدانيّة فيها من السّعادة أو الألم الحلو بقوة الحبّ الصّافي ونضجه. حبّه نبيل الحياة والوقت لا قيمة لهما دون الحبيبة، واليُتم الحقيقي بُعدُهُ عنها. هي دندنات ذاتيّة يُشبه فيها كثير من البشر بصدقهم سعادتهم وشقائهم.
تتنوّع المواضيع في الديوان فينتقل ليُسمعنا أغنية العُزلة: «غارقٌ في دجى السّهرْ/ ووحيدٌ بلا قمرْ/ ضجِرٌ بيْد أنّني/ لستُ عبداً لدى الضّجرْ/ أكسرُ الحزنَ بغتةً/ وألومُ الّذي انكسرْ» تحلو العُزلةُ للاختلاء بالنّفس، والمناجاة الدّاخليّة في اللّيل والسّكون على ألّا تطول لأنّها تصبح مصدراً للقلق والكآبة، وهذا ما يدركه الشّاعر جيّداً ويبتعد عنه. وحين يشعر بالسأم يقول في قصيدة «كهذيانِ قطةٍ غير معاصرة» ص ١٦٦: «وجهي صحراء/ ولساني صخرة/ والفؤاد قيظ/.. ثمّة غصةٌ في الحلق/ والرّوح/ والقلب واللّغة../ ليتني كنتُ مقهى على رصيف الوقت». لشدة صدق كتاباته تنتقل المشاعر إلينا فنشعر معه بغصّةٍ.. تتداعى في رأسه الأفكار والذّكريات وما قرأه في الكتب علّمه أن يكون جاداً كحقلٍ، قلقاً كموجةٍ، يكتب في ورقةٍ استلّها من الضّباب يذكر سارتر، كافكا، وليم فوكنر، البردّوني، فدوى طوقان، مظفّر النّواب، وغيرهم.. مرّوا بلحظاتٍ تُشبه حاله فيلجأ إلى سماع موسيقى نصرت علي خان ويقول: ماذا فعلتَ بي تلك اللّيلة؟.. تظهر بشكل جليّ ثقافة الشّاعر وبراعته في صياغة ما ورد في بعض قصائد كبار الشّعراء والمفكّرين ضمن قصيدة ممتعة غنيّة جداً أقلّ ما يُقال عنها.
يكتبُ الشّعر لأنّهُ: «ذلك الّذي/ يُرمّمُ ما تهدّمَ في القلب/.. يمجّد تورّطنا في الحنين/ الّذي يعتني بآثامِنا البِكر/ ويمتدحُ حماقاتِنا الصّغيرة/ الّذي يصون الضّحكةَ من التّلف/ وأغانينا من الخراب/ ذلك الّذي يستحقُّ أنْ نُسميّه شِعراً».. هناك وئام وانسجام بين الرّوح والشّعر بمرونةٍ محكومةٍ بمزاجٍ حسّاسٍ يتنفّسُ الصّدق والعفوية دون مواربةٍ وتزيينٍ لفظيّ مصطنعٍ فيغدو ما يكتبه مشرقاً..
الشّاعر عبدالمحسن يوسف لا يكفينا قراءة كتاب واحد لنتعرّفَ إليه، اسمُهُ بارزٌ وسط هذا المدّ الكبير من الشّعراء والمثقّفين كأنَّ هواءَ جزيرة «فرسان» معبّأٌ بالقصائد فلا تشبع منه.. هو في قلب الثّقافة العالميّة يطوّر ذاته، الخيالُ مملكته وفضاؤه الرّحب.. وهو رغم اهتمامه بالمضمون لم يهمل الأسلوب فاختار منه السّهل الممتنع وأجاد اختيار موسيقى القصائد من خلال التّفعيلة أو الاعتماد على الموسيقى الدّاخليّة بانتقاء لفظي وتركيبي منسجم مع اختيار الصّور الفنيّة الّتي تؤثّر بالمتلقي لأناقة الشّكل والمضمون، معجمه ثريٌّ ومرن يطاوعه بالتّعبير لأنّه يؤمنُ بأنّ الأسلوبَ روحٌ، هو روحُ النّص وروحُ كاتبه.
نتساءل مع الكبير بُلند الحيدري: «في أيّ من الأبواب المهجورة، ستعود حكايات أحلامنا» ونسأل الشّاعر هل سيبقى المطرُ كسولاً على الباب؟!
* كاتبة وناقدة لبنانية
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
0 تعليق