كتب: عريب الرنتاوي
عاد بنيامين نتنياهو من واشنطن، بسقف أعلى من التوقعات والشروط. الرجل الذي ذهب إلى قمته الأولى مع دونالد ترامب في ولايته الثانية، بعد أن أبرم اتفاقاً من ثلاث مراحل مع حماس، لإنهاء الحرب والانسحاب الشامل، وتبادل الأسرى، وفتح طرق المساعدات والإغاثة والإيواء، وجد لدى محدّثه الُمجلّل بنصر انتخابي يُعمي البصر والبصيرة، ما يفوق سقوف توقعاته، وما يتخطى أكثر أحلامه "ورديةً". وجد رجلاً كارهاً لحماس والفلسطينيين، يسعى في تملّك قطاع غزة بعد تهجير سكانه، وتوزيعهم في شتات الأرض ومنافيها.
ما الذي (ومن الذي) سيُقنع نتنياهو وأركان اليمين الفاشي في "إسرائيل" بممارسة "التواضع" في رسم السقوط وتحديد الشروط والمطالب؟ ولماذا يبقى الرجل وحكومته وائتلافه على ما سبق لهم أن تعهدوا الالتزام به، في اتفاق وقف النار، أمام الوسطاء والمجتمع الدولي، بل وأمام الرأي العام الإسرائيلي؟
وقبل أن يعود من رحلته المفعمة بالمفاجآت الصاعقة التي فجّرها مشروع ترامب لتهجير الفلسطينيين، كان الرجل يبعث برسائل إلى الدوحة والقاهرة: تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق، تأجيل مفاوضات المرحلة الثانية، إعادة صياغة لائحة الشروط والمطالب الإسرائيلية، بناءً على المعطى الأميركي الجديد ولم ينتظر الرجل طويلاً، إذ باح بما يجول في خاطره: إخراج قيادة حماس من غزة، نزع سلاحها وتدمير منشآتها العسكرية وبناها التحتية، ومنعها من أن تكون جزءاً من أي سلطة في غزة، وهذا غيض من فيض الشروط المستجدة والسقوف الأكثر ارتفاعاً وتلكم، وفقاً للمراقبين، واحدة من أولى وأخطر، تداعيات مشروع ترامب على مفاوضات التهدئة ووقف الحرب.
المرحلة الثانية في خطر
حتى الآن، لا يبدو أن سيناريو انهيار الاتفاق بات مؤكداً، أو حتى أمراً مرجحاً، ولا سيما أن حماس وفصائل المقاومة، ستظل تحتفظ بعدد كبير نسبياً من الأسرى والمحتجزين لديها... الإفراج عن هؤلاء، أولوية أولى بالنسبة إلى ترامب الذي تعهد مراراً وتكراراً بإطلاق سراحهم.
لكن السؤال الذي سيظل عالقاً، كيف يمكن "تحرير" هؤلاء من أسرهم، وما الذي سيقنع حماس بالإفراج عنهم، وما الثمن الذي يتعيّن على حكومة الفاشيين الجدد، أن تدفعه في المقابل؟
حتى الآن، تبدو الصورة غائمة وضبابية إلى حد كبير. فالمرحلة الثانية من الاتفاق، أو بالأحرى المرحلتين الثانية والثالثة، لن تشتملا فقط على تبادل الأسرى وإتمام الانسحاب من غزة ووقف الحرب، لكنها من ضمن أشياء أخرى، ستتوقف مطولاً عند سؤال اليوم التالي، من سيحكم القطاع في المرحلة المقبلة، وما مصير حماس، بنيةً عسكرية وسلطوية سواء بسواء.
هذا السؤال ازداد ضغطاً وإلحاحاً على عقل نتنياهو وحليفه في البيت الأبيض، سيما بعد العراضات والاستعراضات التي أجرتها حماس في مراسم تسليم أسرى العدو وتسلم أسرى الفلسطينيين المحررين من سجون الاحتلال.
صورة النصر المطلق التي وعد بها نتنياهو، تتمزق يوماً إثر آخر، ومع كل صفقة تبادل، تؤكد حماس "أنها الطوفان وأنها اليوم التالي" فيما صورة نتنياهو ومكانته، تتآكلان صبيحة كل سبت منذ أن دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وهذا ما يثير حفيظته، ويدفعه إلى التفكير في تدمير الاتفاق على رؤوس الأسرى والآسرين سواء بسواء.
ما كشف عنه نتنياهو من شروط جديدة للاتفاق، لا يمكن أن يكون مقبولاً، لا من قبل حماس ولا من قبل مختلف القوى والفصائل الفلسطينية. هو لا يطلب شيئاً أقل، من أن تصفي حماس نفسها بنفسها، وأن تطلق النار على رأسها وليس على قدميها.. هو يريد بسيف التهجير القسري الذي شهره دونالد ترامب، أن يحصل على ما عجزت "الميركافا" و"الإف 35" وقنابل الألفي رطل عن تحقيقه... هذا ليس خياراً تفاوضياً، تلكم وصفة موثوقة لخراب المسار التفاوضي، وإحباط الوسطاء والوساطات.
كيف يمكن لنتنياهو، ومن خلفه ترامب، أن يضمنا إخراج جميع الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، في الوقت الذي يطلقان فيه النار على حماس، بدل أن يتفاوضا معها؟.. هل يفترضان أن الحركة ومفاوضيها من السذاجة بحيث تقبل بالتخلي عن "ورقة الأسرى" من دون ضمانات للبقاء والاستمرار، وكرمى لعيون الوفد التفاوضي المعاد تشكيله وفقاً لقواعد الولاء الشخصي لنتنياهو؟
ترامب الذي طالما تبجح بأن إنجاز اتفاق وقف النار، ما كان ممكناً من دون انتخابه ومن دون حزمه وبطشه الشديدين.. ترامب نفسه، بمشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، يضع هذا الاتفاق على المحك من جديد، ويتهدد بانقطاع الصلة والتواصل بين مرحلتيه الأولى والثانية، واستتباعاً، يتهدد حياة الأسرى الإسرائيليين، إن ظلوا في قبضة المقاومة، وإن تداعت الأوضاع إلى سيناريو عودة الحرب من جديد.
في المقابل، يصعب على نتنياهو أن يكون صهيونياً أقل من ترامب، فالأخير يطالب بـ"تنظيف" و"تطهير" قطاع غزة من أهله وأصحاب الأرض الأصليين، وليس من حماس والمقاومة فحسب، فهل يمكن لنتنياهو أن يهبط بسقفه إلى ما دون سقف ترامب... الهرم مقلوب على رأسه، وبدل أن يعمل زعيم الدولة الأعظم على احتواء غضب وتطرف "زعيم العصابة" الحاكمة في "تل أبيب"، رأينا تاجر العقارات يفكر بجشع يفوق بأضعاف جشع تاجر البندقية لشكسبير.
لقد جعل ترامب من مهمة موفده بيتكوف صعبة للغاية والمرجح أن مفاوضات المرحلة الثانية، التي أجمع المراقبون على وصفها بالصعبة، قد أصبحت أكثر صعوبة وتعقيداً، سيما بعد أن أشعلت تصريحات ترامب التهجيرية الخيال الجامح لنتنياهو، فأخذ يطالب السعودية باقتطاع جزء من أراضيها الشاسعة، لتكون وطناً للفلسطينيين يقيمون فوقها دولتهم العتيدة، وبعد أن رأى رفضاً مصرياً وأردنياً لمشروع التهجير واستقبال المزيد منهم. ويتكوف الذي ادعى بأنه عرّاب الاتفاق، سيجد صعوبة في المضي قدماً على طريق تنفيذه.
وترامب نفسه، الذي وضع هدف التطبيع بين السعودية و"إسرائيل"، جعل بمقترحه التهجيري هذه المهمة أكثر صعوبة من أي وقت مضى، سيما بعد أن تطوع نتنياهو لتعميق مشروع ترامب وتوسيعه، وضم السعودية إلى قائمة الدول المستهدفة بالتهجير القسري.
هو مثال على الكيفية التي يعمل بها ترامب الشيء ونقيضه، وكيف يمكن لآخر كلامه أن يدمر أوله... استمرار وقف النار بات مهدداً وأبعد منالاً... والتطبيع بات أبعد عن خط نهايته منذ أن طرحت الفكرة أول مرة... غريزة المقاول والمطور العقاري، تغلبت على عقلية السياسي لدى ترامب، فكانت النتيجة ما آلت إليه الحال في المنطقة، حيث لم يعد الحراك السياسي والدبلوماسي مدفوعاً بالتضامن والإسناد للفلسطينيين، بل بالدفاع عن الذات، عن الأمن والاستقرار والوجود، في كل من عمان والقاهرة والرياض، وسط تقديرات تذهب في حدها الأقصى للقول بأن عداوة واشنطن قد تكون في بعض الأحيان أقل كلفة من صداقتها.
ترامب ليس قدراً
ترامب ليس قدراً، وكذا نتنياهو، بمقدور العرب، أن يقلبوا الطاولة على رأسيهما معاً، إذ لم يعد المستهدف بمشاريعهما الفلسطينيين وحدهم، بل الدول العربية في أمنها واستقرارها وهويتها وكيانها ووحدة وسلامة أراضيها وسيادتها واستقلالها.
المطلوب من القمة العربية الطارئة المقبلة في القاهرة، وقفة من نوع مغاير تماماً، أقله أن تضع الاتفاقات والمعاهدات المبرمة في المسارين التطبيعي والإبراهيمي في كفّة، والتهجير في كفة أخر ... المعاهدات والاتفاقات في كفّة ووقف الحرب في كفّة أخرى، المعاهدات والاتفاقات في كفّة و"حل الدولتين" في كفّة أخرى.
ترامب ليس بحاجة إلى الشرح والتوضيح، ربما يكون من المفيد مخاطبة مؤسسات صنع القرار الأميركي المختلفة، لحشد الدعم للموقف العربي، لكن من دون مبالغة فالرجل عائد إلى البيت الأبيض بقوة الثور الهائج، وهو مصرّ على مشروع على ما يتضح من تصريحاته المتكررة.
المطلوب مخاطبته باللغة التي يفهمها، لغة الصفقات وفنونها... فلديه ما يخسره إن خسر علاقاته المتميزة مع حلفائه، والعرب ليس وحدهم من سيخسر في هذه المعادلة، ومن دون أن تتوفر للمجموعة العربية، الجرأة والشجاعة والإرادة للدخول في لعبة "مكاسرة الإرادات"، سينتصر ترامب ويتوّج نتنياهو ملكاً للمنطقة، ويخسر العرب مثلما سيخسر الفلسطينيون، والكرة الآن في ملعب 22 زعيماً عربياً، سيتقاطرون إلى القاهرة عمّا قريب.
0 تعليق