عاجل

جدلية العلاقة و"تبادل الأدوار" بين المقاومة وحواضنها #عاجل - عرب بريس

0 تعليق ارسل طباعة
جو 24 :

كتب: عريب الرنتاوي * 

درجت الأدبيات الكلاسيكية للمقاومة على القول إن المقاومة هي من تحمي "بيئتها/شعبها"، وتدرأ عنها شرور الأعداء وأطماعهم السوداء، وتذود عن مشروعها ومستقبلها، أشواقها وتطلعاتها... وهذا صحيح تمام الصحة، في حالة الشعوب الرازحة تحت نير الاحتلال أو المهددة به، والقابعة على تخومه، كما هي الحال في الحالتين الفلسطينية واللبنانية.

لكن هذه المعادلة، انقلبت أو كادت أن تنقلب، في مختتم معارك الطوفان والإسناد، وبُعيد التوقيع على اتفاقَي وقف النار على الجبهتين: اللبنانية أولاً، والفلسطينية بعد قرابة الخمسين يوماً، إذ بدا أن جماهير المقاومتين، وقواعدهما الاجتماعية، هي من تقدم الصفوف ذوداً عن أرضها ومشروعها ومقاومتها في الآن في ذاته... وهي من أدخل عوامل حسم جديدة على معادلة القوة والصراع مع الاحتلال... بدا أن أهل الجنوب والضاحية والبقاع في لبنان، وأهل غزة في فلسطين، هم من أمدّوا حزب الله وحماس، بخشبة خلاص، ما كان للحركتين أن تنجوا من دونها، حتى أمكننا من دون مجازفة، القول بأن "روحاً جديدة" قد تدفّقت في عروق الفصيلين اللذين خاضا المعارك الأصعب في حياتهما، بل وفي تاريخ بلديهما.

في غزة المدمرة عن بكرة أبيها، جاء المدد للمقاومة الفلسطينية من شعبها، أولاً بعودته المظفّرة الزاحفة إلى الشمال، وشمال الشمال، بمئات ألوف الراجلين على أقدامهم، من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، من مرضى ومصابين وأصحّاء... هذه الصورة غير المسبوقة في التاريخ الفلسطيني، رأى فيها كثيرون، استدارة في التاريخ، الحافلة صوره بقوافل المهجّرين من وطنهم إلى دنيا المنافي والشتات ومخيمات اللجوء... هذه المرة، ثمة صورة لتدفق العائدين إلى ركام بيوتهم وبلداتهم ومخيماتهم وقراهم في القطاع المنكوب... صورة رأى فيها آخرون "بروفة للعودة الكبرى"، التي انتظرها بشوق ملايين اللاجئين والنازحين، منذ عقود ثمانية على النكبة.

لو ظلّ الشمال، وشمال الشمال، مفرَّغاً من أهله، لما استطاعت المقاومة وشعبها، "تظهير" صورة النصر التي أرّقت أعداءهم، وأصابت نخب "إسرائيل" السياسية والعسكرية بالاكتئاب والإحباط...ولما خرج غلاة المتطرفين في الكيان في "لطميات" لم تتوقف حتى اليوم، ولما عاشت "إسرائيل" مرارة الخيبة من جراء فرار النصر المطلق من بين أصابعها... الشعب الفلسطيني، هو بطل هذه الصورة والحكاية، وهو منقذ المقاومة ومتصدّر خطوطها الأمامية.

ولنا أن نتخيل السيناريو /الكابوس، الذي روّجت له طوابير خامسة عديدة، وليس طابوراً واحداً فقط، لو أن نصف المليون مواطن الذين احتشدوا على ممر "نيتساريم" في طريق العودة إلى الشمال، قد احتشدوا على معبر رفح، أو على مقربة منه، في رحلة لجوء جديدة، من القطاع إلى سيناء...حينها، وحينها فقط، كان نتنياهو سينفش ريش الطاووس مطلقاً صيحة "النصر المطلق".... هذا لم يحدث، وحدث نقيضه، فيما نتنياهو وصحبه، يجهدون ليل نهار، في مساعيهم لإقناع مستوطني الغلاف، بالعودة إلى مغتصبَاتهم، من دون جدوى...الشعب الفلسطيني، هو بطل هذه القصة والحكاية.

لو ظلت غزة المدينة، وشماليها، بلا أهلها وساكنتها، العائدين منهم، أو الذين استمسكوا بحجارة بيوتهم مقاومين آلة التدمير الصهيونية الجبارة وحممها القاتلة وأنيابها الفولاذية، لما استطاعت الكتائب والسرايا، إجراء احتفالات النصر، الاستلام والتسليم، في ساحات السرايا وفلسطين والميناء وقلب جباليا / الأسطورة، العنقاء التي تخرج كل مرة، من تحت الرماد والأنقاض، لتشق عنان السماء، مردّدة قول رهين المحبسين، صاحب اللزوميّات: "أرى العنقاء تكبر أن تُصادا...فعاند من تُطيق له عنادا".

مع دخول وقف إطلاق النار في غزة، حيّز التنفيذ صبيحة التاسع عشر من كانون الثاني/يناير، تسمّرت الأعين باتجاه غزة، لترصد تفاصيل أول لقاء موسّع فوق الأرض، بين الكتائب والسرايا وبيئاتها الحاضنة، وسط رهانات المتربصين والشامتين، على اندلاع انتفاضة شعبية ضد "من كانوا السبب في الكارثة"... هذا لم يحدث، بل حدث نقيضه، والتف الناس بالألوف، حول عناصر المقاومة، في مراسم واحتفالات الاستلام والتسليم للأسرى والمحتجزين المهيبة، لهجت ألسنة الجموع الغفيرة وحناجرها، بالهتاف للمقاومة وشهدائها من القادة الكبار... خاب رهان المتربصين، وطاشت سهامهم.

كانت الخشية، أن يخرج رجال القسام والسرايا، منهكين، بملابس رثّة وأجساد هزيلة، في مختتم أكثر الحروب طولاً ودموية وتدميراً، سيراً على أقدامهم، وفي أحسن الأحوال، فوق عربات تجرها الدواب، يجرجرون ما تبقى من بنادق بين أيديهم ومن خلفهم، لكن هذه الخشية بدّدتها الإطلالة الأولى المهيبة لرجال المقاومة، بكامل قيافتهم العسكرية، مدججين بالسلاح المُغتنم من مستوطنات العدو في ذلك اليوم المشهود، وفي استعراضات لائقة، لم تغب عنها التفاصيل، حتى أدقها، حرص القائمون عليها والمنظمون لها، على أن تكون محمّلة بالدلالات والرسائل في كل اتجاه، وإلى كل من يهمه الأمر، محاطين بأبناء وبنات شعبهم، وأحياناً بطوفان بشري، كاد للحظات أن يصبح عصياً على السيطرة والتحكم... كل المخاوف والتحسبات، وبعضها كان يصدر عن أصدقاء ومحبين، ذهبت هباء الريح، دفعة واحدة، لتحلّ محلها صورة زاهية أخرى، أسرّت الأصدقاء وأغاظت الأعداء حدّ ابتلاع الإهانة وفقاً لـ"وول ستريت جورنال"... المقاومة تستعرض قوتها وصلابتها وإرادتها الفولاذية.

حَقَّ لحماس أن تقول "نحن هنا"، كنا هنا وسنبقى هنا، حقّ لحماس أن تصوغ معادلة الأمر الواقع الجديد، غزة ما بعد الحرب: "لا تحكم بحماس، ولا تحكم من دونها"... وعلى الموفدين والوسطاء، البحث في رياضيات غزة، عن معادلة جديدة، بين هذه الحدين، توطئة للتعافي وإعادة الإعمار، وبانتظار أن تقول صناديق الاقتراع كلمتها الأخيرة، بعد أن فاضت صناديق الرصاص بما في جوفها.

في لبنان كما في غزة، وربما أكثر من غزة، هبّت بيئة الحزب متمردة على ما ظنه البعض لحظة انكسار وهزيمة للمقاومة وحزب الله، وخرجت الأطراف "إيّاها" في الداخل والخارج، تنعى الحزب والثنائي، بل والطائفة من ورائهما، وتقترح حلولاً وتسويات مشيّدة على الأنقاض وركام الجثث والجثامين...وبدا أن اتفاق السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، قد شجّع هؤلاء على الذهاب بعيداً في الرهان على قطف ثمار العدوان على الجنوب والضاحية والبقاع، وكل لبنان... كما تشجع هؤلاء بالنشاط المحموم للخماسية العربية – الدولية، التي أثمرت انتخاباً لرئيس وتكليفاً لآخر، وفقاً لمسطرة شروط، أسقطت المقاومة من لائحة مفرداتها، وسعت في فرض صك إذعان داخلي، يتناسب مع ما وصفوه بصك إذعان أبرم ذات يوم خريفي.

لكن ما حصل فاجأ الجميع، لم ينتظر جمهور حزب الله لحظة طلوع خيوط الشمس الأولى، حتى بدأ مسيرة العودة الزاحفة إلى القرى والبلدات والمدن التي هُجّروا منها... لم يتريثوا ساعة واحدة بعد انقضاء مهلة الستين يوماً التي نصّ عليها الاتفاق، حتى تدفقوا من كل فجّ عميق، زحفاً نحو القرى والبلدات الحدودية، مستبقين الجيش في انتشاره، محررين العشرات منها، بأجسادهم وصدورهم العارية، مقدمين كوكبة جديدة من الشهداء والجرحى، في مشهد مهيب، هيهات أن يعرف مثله، المقلب الآخر من الحدود، حيث الريح تصفر بالمستوطنات الخالية من سكانها، الخاوية على عروشها.

صور المرأة الجنوبية التي تفتح ذراعيها لفوهة "الميركافا"، والشبان الذين يتحدّون بقبضاتهم المضمومة، جنود العدو، صور الشيوخ والنساء والأطفال، المظلّلة برايات لبنان والمقاومة، شكّلت في مضمونها، رسالة "نصر" مؤزّر للبنان والمقاومة والبيئة الحاضنة لها، سواء بسواء... ومن شاهد قادة الحزب ونوابه، ومن تتبع خطابات الحزب وتصريحاته، لا شك، تلمس نبضاً جديداً وروحاً قوية تنبعت من بين السطور وتتقافز من بين الكلمات... الجنوبيون، وأهل المقاومة، ردّوا الدين لحزب الله، وكانوا معه وإلى جانبه وقبله، في معركة استرداد المناطق المحتلة، والتحرير الثاني لجنوب لبنان... ومنذ انتشار تلك الصور، بدأت نبرة الخطاب والأحاديث، تتغير، تواضع المراهنون على الهزيمة والانكسار، وهبطت سقوف توقعاتهم، فيما الحزب بات أكثر جرأة في الدفاع عن معادلته التي طالما وصفها بـ"الذهبية": الجيش والشعب والمقاومة.

لقد ملأ الجنوبيون وأهل المقاومة، فراغاً نسبياً تسببت به الحرب والاغتيالات الوازنة...قد استعادوا توازناً كاد أن يختل في معادلات لبنان الداخلية، لقد اشتروا بأنفسهم وأرواحهم، وقتاً ثميناً، كانت المقاومة بأمس الحاجة إليه... لقد انتصروا لها، وهي التي انتصرت لهم طيلة أكثر من عشريات أربع من السنين.

وحدة المقاومة وحاضنتها، في التجربتين على اختلاف سياقاتهما وظروفهما، أسقطت أهداف ومرامي أقذر حروب التاريخ، حرب استحضرت أحدث ما في الترسانة الأميركية من أسلحة الدمار، وأبشع ما في العقول المدجّجة بالكراهية والحقد الأسود... لقد أرادوا فصم عرى هذه الوحدة، بالاستهداف المنهجي المنظم للبشر والشجر والحجر في لبنان وغزة... لكن الحرب ستنتهي بتقوية عرى هذه اللحمة، وتوثيق أواصر هذه الوحدة.

على أن حرباً جديدة ستندلع، قبل أن تضع معارك الميدان أوزارها، سياسية هذه المرحلة، وعناوينها الإغاثة وإعادة الإعمار والتعافي المبكر... أسلحة لا تقل وحشية، يجري إشهارها في وجه المقاومة وحواضنها، ودائماً لتحقيق الأهداف ذاتها... إنهم يحاولون "تسييس" ملفات الإغاثة والإيواء وإعادة الأعمار، وتحويلها إلى أسلحة تؤبد "الدمار الشامل"، علّ أهل الجنوب وغزة، يلفظون مقاومتهم... نرى ذلك في حكاية إبعاد حماس عن حكم غزة، توطئة لإخراجها من الجغرافيا والتاريخ والسياسة، ونرى ذلك في مساعي إقصاء طائفة بأكملها عن النظام الجديد، حتى وإن تطلب الأمر، الضرب عرض الحائط بالميثاق والعيش المشترك... نرى مساعي محمومة تضرب هنا وهناك... لا نجاحات تذكر حتى الآن، ولكن الرهان ما زال منصباً على القول الذائع: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق... فشلوا من قبل، رغم الأعناق الكثيرة التي قطّعوها، وهم يستديرون اليوم، لتقطيع الأرزاق... الحرب ذاتها، تندلع مجدداً، وإن بأدوات مختلفة، والأطراف ذاتها تتموضع على ضفتي الخندق، وما عجزوا عن انتزاعه في الميدان، يجب أن لا يتحصّلوا عليه في السياسة والاقتصاد، تلكم هي القاعدة الذهبية، فالحذر الحذر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق